النحت قديم قدم الإنسان، وقد ظهر في كل حضارات العالم، وقبل أن يرتقي إلى شكل من أشكال الإبداع فقد كان وسيلة للتعبير عن أولى مظاهر الوجود البشري، ويكاد يسبق كافة أشكال الفنون الأخرى بذلك، فقد استخدم الإنسان الأول هذه الوسيلة لإيجاد مكان يعيش فيه بعد أن انتقل من الغابة إلى الكهوف، فهنالك الكهوف الطبيعية والمنحوتة، ثم انتقل إلى نحت أدوات معيشته اليومية من ( الحراب والفؤوس الحجرية...) وهذه بشكلها البدائي تعتبر أولى الخطوات باتجاه النحت الذي أضحى فيما بعد تعبيراً عن تقديره وتقديسه، أو خوفه أحياناً من الأشياء المحيطة به مثل تجسيد الحيوانات والمرأة ثم انتقاله للآلهة التي كان يعبدها.
في هذه المرحلة السابقة نستطيع القول أن الإنسان الأول قد لبّى بعض حاجاته بالاعتماد على ما سمي لاحقاً بفن النحت، وذلك بعد ارتقاء العقل البشري الذي أصبح يفكر ويحب ويكره بوعي كافٍ. من هنا بدأ التعبير الواعي عن هذه الحاجات التي أصبحت أسمى وأرقى من ذي قبل ثم اتجه بعد ذلك نحو الجمال وتجسيده.
ولا شك في أن للحضارات بتعددية فكرها وثقافتها، قد أغنت النحت بمفاهيمها ومعتقداتها الخاصة، وجاءنا ذلك عبر هذه الحصيلة المتنوعة، فنحن اليوم نتذوق هذا الفن بجماليته وإعجازه في كثير من الأحيان، ابتداءً من النحت في العصور الحجرية مروراً بالحضارة الرافدية واليونانية والرومانية والصينية...وانتهاءً بالعصر الذهبي للفنون مجتمعة عصر النهضة الأوربية.
وتكمن أهمية النحت أيضاً في تسجيله لوقائع التاريخ، بالإضافة للفنون الأخرى مثل الرسم، إذ حفظ لنا بتجسيد حقيقي أشكال الملوك والأمراء والمعارك والأختام والمعاهدات التي كتبت على الرُقيّمات وما إلى ذلك، ويكاد يعتبر فن النحت من أءمن الفنون على حفظ التاريخ وتسجيله، فبإمكانه أن يقدم لنا الكثير عن حياة الشعوب ومعتقداتها وتطلعاتها وأفكارها، ابتداءً من العصر الحجري والمنحوتات التي تتناول التعاويذ والمعبودات واستخداماتها، وصولاً إلى النحت الفرعوني بقوة وضخامة النتاج الذي خلد الحضارة المصرية على مر العصور والتي يصفها هيغل بقوله: ( كل شيء يدفعنا إلى الاعتقاد بأن المسألة هنا فيها فعل الخلق ذاته، فعل لبناء نوع من الصلاة، نوع من العبادة يشترك فيها الشعب بأسره مع مليكه )، وصولاً إلى الفن الإغريقي المتميز وما نشاهده في معابد الأكروبول والبارتينون والأركتون فقد حملت أشكال الفن الإغريقي الحلول للمسائل الجمالية عند كثير من المجتمعات، وفي ظروف زمنية ودينية متباينة.
وما زال الفن المعاصر يبذل مجهوداً فعالاً بالتخلص نهائياً من وطأة الأشكال اليونانية ومن سطوتها على الفكر الفني الحديث. واستخدام النحت اليوناني للجسد البشري كأداة جوهرية للتعبير في تجربة جمالية رائعة تشف عن ذائقة مرهفة وإحساس دقيق بالحياة، وفي اتزان وانسجام في خلق تأثير تقني شديد الصعوبة.
أما في الهند والصين وبعض حضارات الشرق فقد اتسمت المنحوتات بالفكر الفلسفي، وكانت تجربة الإبداع الفني فيها بمثابة معاناة صوفية وتجربة روحية تجسدها أشكال الآلهة، إضافة إلى خصائصها المثيرة التي تبدو على شيء كبير من الفرادة.
وصولاً إلى النحت الرافدي وحالة الإعجاز فيه مروراً بكل الحضارات التي تعاقبت عليه، حيث نميز بوضوح ملامح النحت البارز منذ الألف السادس قبل الميلاد حيث تمثل هذا النوع من النحت على قطع صغيرة من الحجر والمحار والعظم ومواد أخرى عديدة، والذي يقول عنه الباحث الأستاذ جهاد صالح في كتابه موسوعة بلاد الرافدين: ( ازدهر النحت في حضارات ما بين النهرين وهو الحفر بأجسام صلبة وأدوات معينة لإخراج التصميم المطلوب لصور بشرية أو حيوانية أو زخارف نباتية وهندسية بأبعاد ثلاثية على الجدران بشكل غائر أو بارز ومن أهمها المسلات التي نقشت عليها الأنظمة والقوانين والأشكال المختلفة كالأسود المجنحة والثيران وتزن إحداها عشرات الأطنان. وتلك الأسود المجنحة توضع على جوانب مداخل القصور وبوابات المدن الكبرى لحماية سكانها من الشرور. وتظل المواضيع الدينية طاغية عليها.)
أما بالنسبة للتقنيات فقد اختلفت من حضارة إلى أخرى بحكم المنطقة الجغرافية التي تتواجد فيها والتي تؤمن نوعاً من المواد الأولية، غالباً ما يتم تنفيذ الأعمال النحتية من خلاله، أو تبعاً للاكتشافات التي يصل إليها كاكتشاف المعادن مثلاً ـ ونلاحظ أن الفن البدائي قد اعتمد على الصلصال في تشكيل الأعمال واللقى، في حين أن اليونان والإغريق مثلاً قد اعتمدوا على الحجر لتوفر هذه المادة بأماكن تواجدهم، أما الرافديين فيغلب على أعمالهم استخدام المادة الطينية لتواجدها في نهري دجلة والفرات وقلة الأحجار، ونرى ذلك حتى في المباني العمرانية فقد تأثرت بهذه الحالة، في حين أن المصريين القدماء قد تخلصوا من هذه المشكلة فسحبوا الأحجار عبر نهر النيل من الجنوب.
من خلال هذه الدراسة الموجزة لتاريخ النحت نستطيع القول بأنه من أرقى الفنون، معبرٌ وراقٍ وحافظٍ للتاريخ البشري، وموازٍ لتطور البشرية منذ خطواتها الأولى.